الواقع الافتراضي.. بيئة خصبة للعنف ضد النساء ممثلة عن إحدى المنصات النسوية في مصر
أضحى الإنترنت احتياجًا أساسيًا في حياتنا، ولا يمكن أن يمر يوم دون أن نستخدمه، لأي سبب، بداية من متابعة حساباتنا ونشاط أصدقائنا على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى تصفح المواقع الإخبارية، أو البحث عن عناوين أماكن نريد الوصول إليها، أو تقديم أوراق ودفع فواتير، وريما التواصل عبر تطبيقات الاتصالات المجانية، وغير ذلك الكثير. وأنا من هؤلاء الذين لم يعد بإمكانهم أن يتخلوا عن الإنترنت في حياتهم، لا سيما أن عملي يرتبط به، بل أبعد من ذلك، هو جزء من الفضاء الإلكتروني الواسع، وهو ما يجعلني متوحدة مع ذلك العالم، ولساعات عديدة من يومي تزيد عن نصفه، أعيش معزولة عن الحياة التي تجري أحداثها على أرض الواقع.
علاقتي بالإنترنت تنقسم إلى فصلين، الأول هو الذي بدأ في طفولتي، وتعاملي معه كوسيلة للترفيه، للتواصل مع أصدقائي عبر البريد الإلكتروني وبرنامج المحادثة «ماسنجر»، ومشاهدة الأفلام. ثم تطورت العلاقة إلى استخدامه في عمليات البحث لأغراض الدراسة، ومن ثم متابعة الأخبار اليومية، وطيلة هذه الفترة، لا أتذكر أنني تعرضت لواقعة من وقائع العنف الإلكتروني التي دفعتني لاتخاذ أي رد فعل قوي، ولا أتذكر أنني تعرضت لذلك سواء من جانب المستخدمين لمحدودية استخدامي ولأنني لم أكن بعد أبدي اَراء شخصية تجاه أمور تستحق الجدل والجدال، وكان نطاقي هو أصدقائي، وكذلك لم أكن أتعرض لذلك العنف من جانب أسرتي، فلم يكن أحد يتعقب محاوراتي عبر الإنترنت أو يمنعني من استخدامه، لكن الأمور تغيرت كثيرًا مع قيام ثورة يناير 2011.
قبل ثورة 2011، عندما أنشأت حسابي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، كنت أتعرض أحيانًا لملاحقات لفظية من بعض المتحرشين، من خلال رسائلهم إلى حسابي الشخصي، وكنت على الأرجح أتجاهلها، خاصة أنها كانت تحرشات لفظية، كنت أعلم أنه من الصعب أن أتعامل معها بشكل قانوني، ولا أذكر سوى مرة واحدة، تعمدت فيها فضح أحد هؤلاء المتحرشين، من خلال نشر رابط حسابه الشخصي، وصورة ضوئية من هذا الحساب، بعد أن أرسل إلي صورة عضوه الذكري، مرفقًا بطلب لممارسة الجنس.
بعد اندلاع الثورة في العام 2011، تغيرت الأمور على مستويات عديدة، أولًا على مستوى الوعي الشخصي الذي تكون لدي عن العنف الإلكتروني لفظًا وفعلًا، والتحرش عبر الشبكات الاجتماعية، وأصبحت أبدي اَرائي فيما يجري من أحداث، والأهم هو تأسيسي لمنصة إلكترونية تقدم محتوى صحافي نسوي، يركز على تغطية ومعالجة ظواهر العنف ضد المرأة المنتشرة في مصر، وكان ذلك بابًا لأشكال أكثر حدة من العنف الإلكتروني ضدي.
بشكل شخصي، عرضتني اَرائي لعدد من الهجمات اللفظية، حتى من قبل بعض الأصدقاء المختلفين في التوجهات والرؤى السياسية، ومع ذلك لم أكن أعدها عنفًا، لأنني كنت أدرك أن الأوضاع متأججة إلى درجة بعيدة، وكل طرف متشيث برأيه ولم يعد يريد أن يسمع الاَخر نتيجة حالة الاستقطاب الحادة.
أما على صعيد استخدامي للانترنت كوسيلة لتقديم إنتاج معرفي، والدخول إلى معترك الدفاع والتثقيف بحقوق النساء ونضالهن، والتنقيب وراء أسباب تفشي ظواهر العنف واستمرارها بنفس الوتيرة تقريبًا، فقد كان الأمر مختلفًا تمامًا ومخيفًا أكثر.
أسست منصتي الإلكترونية في بداية العام 2013، وبدأت المنصة تعمل على فتح ملفات العنف المنشرة في مصر، وفي مقدمتها التحرش الجنسي الذي استفحل وتوحش إبان المظاهرات التي شهدتها الميادين المصرية في الفترة من 2011 وحتى 2014، وتحديدًا ميدان التحرير، وكانت الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة (UN Women) قد أصدرت دراسة في العام 2013، تفيد بأن نحو 99.3 في المئة من النساء المصريات تعرضن لشكل من أشكال التحرش الجنسي، وهو ما جعل الأمر يفرض نفسه على أولويات الظواهر التي يجب النظر فيها ومقاومتها حتى ولو بالأدوات الإعلامية، كما وجهت المنصة اهتمامًا كبيرًا للعنف ضد النساء في المجال العام عمومًا، في فترة كان المجال العام مفتوحًا، ومساحة الحِراك واسعة، وهو ما كان سببًا في تعرضنا (أنا وفريق المتطوعات الذي عمل معي بالمنصة) إلى عنف من قبل أشخاص محافظين في بعض الأحيان، يرون أن النساء هن السبب فيما يتعرضن إليه من عنف، فكانت تصلنا تعليقات هجومية على الموضوعات التي ننشرها من خلال موقعنا على صفحتنا على فيسبوك بسبب ما اعتبروه وقتها “دعوات للتحرر وإفساد النساء والمجتمع برمته”، ومن بين هذه التعليقات كان هناك ما يتضمن اتهامات بالعمالة وتهديدات. كان الحل في ذلك الوقت هو تجاهل هذه التعليقات وحذفها، لكن الأمر إزداد سوءًا مع مظاهرات 30 يونيو، خاصة أننا حرصنا على تغطية مشاركة النساء في هذه المظاهرات، وهو ما فوجئنا بأن المحسوبين أو الداعمين للتيار الحاكم حينذاك، يعلقون على تغطياتنا سواء عبر صفحتنا على فيسبوك أو الموقع أو حتى عبر رسائل إلى صفحتنا على فيسبوك، باتهامات وتهديدات.
وعلى الرغم من كل ذلك، لم يبلغ الأمر حد التعدي اللفظي علي شخصيًا باعتباري مؤسسة المنصة، إلا بعد عام أو أكثر على تأسيسها، وكانت المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، عندما تناولنا موضوعًا عن ختان الإناث، وحينها لم يقتصر الأمر على تعليقات على الموضوعات المنشورة، وإنما فوجئت بتتبع بعض الأفراد لي، وإرسال رسائل إلى حسابي الشخصي على فيسبوك تحمل تعديات لفظية، واتهامات بأنني أريد هدم ثوابت المجتمع وقيمه، أو أنني أريد إشاعة الانحلال، وحينها كنت ألجأ إلى الإبلاغ عن هذه الحسابات إلى فيسبوك نفسه.
أحيانًا، كنا نضطر كمجموعة عمل في المنصة، إلى حظر بعض الحسابات عن الوصول إلى صفحتنا أو متابعتها، بعد أن يتبين لنا أنهم متربصون بنا ويعلقون على أغلب الموضوعات بشكل سلبي، لا لشيء إلا للهجوم والإساءة إلى الفريق القائم على منصة نسوية، هم لا يقبلون بوجودها، لأن أصحاب تلك التعليقات ضد التيار النسوي عمومًا وذلك لقناعات بأن كل من هو معني بالنسوية هو شخص منحرف نفسيًا وأخلاقيًا، إلى جانب المهاجمين الذين لا يؤمنون بأحقيتنا في الكتابة عن موضوعات قد تزعجهم، خاصة التي تنتقد الامتيازات الذكورية.
وفي السياق ذاته، كنت قد فوجئت بعد نشر قصة لامرأة تعرضت للاغتصاب الزوجي على موقعنا ومن ثم صفحاتنا الاجتماعية، بأحد الأشخاص وقد بحث عني باعتباري رئيسة التحرير، ليرسل لي رسالة، يتحدث فيها عن أن الاغتصاب الزوجي حق للرجل وأن النساء يستمتعن بالفعل ولا يرفضنه وإنما هذه إدعاءات ومزاعم يروج لها «المطلقات والعوانس» على حد تعبيره، وأنني شخصيًا من هؤلاء النساء، ثم هددني بأنه مستعد أن يثبت لي ذلك أمام نفسي، إن مارس معي الجنس جبرًا.
علاوة على ذلك، كنت وما زلت استقبل رسائل عبر البريد الإلكتروني الخاص بي، تهاجم المنصة وتهاجمني، بحجة أن المحتوى غير الائق والمناسب لطبيعة المجتمع المصري وقيم الأسرة المصرية، وكنت أتوقف كثيرة أمام كلمة “قيم الأسرة المصرية”، لا سيما أنه لا يوجد كود موحد لكل الأسر، فضلًا عن أن القيم تختلف تبعًا للثقافة والطبقة الاجتماعية وأشياء أخرى كثيرة، تميز كل شخص عن الاَخر وكل مجموعة عن غيرها.
كل ذلك لم يكن يؤثر في ما عقدت العزم على أن أخوضه، وبوضوح فكرة خوضي لمعارك كسر الحائط الصلب الذي تمثله الثقافة المجتمعية الذكورية، ولكن ما يثير قلقي دائمًا هو عمليات حجب المواقع التي تطال المواقع/ المنصات في مصر، بشكل مستمر، فنحن أمام عمليات حجب طالت في الفترة من (مايو 2017 -فبراير 2018) نحو 496 موقعًا، وناهيك عما يمثله ذلك من انتهاك لحرية تداول المعلومات، فإن ذلك يجري بشكل مفاجئ ودون حتى إنذارات مسبقة، ولا توجد قواعد واضحة توضح أسباب الحجب.
بعد خمسة سنوات من العمل عبر هذه المنصة، اكتسبت فيها ثقة الكثير من المدافعات عن حقوق النساء، لتكون المنصة هي مساحتهن الاَمنة لنشر أعمالهن، وكذلك بعد سنوات من بناء أرشيف يعكس حجم العنف الواقع على النساء، سواء من خلال قصص واقعية أو تقارير متخصصة، كل ذلك معرض في أي لحظة إلى أن يُحجب عن مستخدمي الإنترنت في مصر، بـمجرد «نقرة على زر».
مثلما تولد الشجاعة شجاعة في كل مكان، يولد القلق والخوف، مخاوف أخرى عديدة ومتفرقة، وهذا هو الشعور القائم على الأقل بالنسبة لي، أنا لا أعلم كيف ستمضي الأمور، وربما لا أتوقع أن تؤول إلى الأفضل، لكن الأكيد أن مستخدمات الإنترنت عمومًا دائمًا في خطر في ظل غياب اَليات واضحة تحمي خصوصياتهن وتحميهن وأي فرد بغض النظر عن جنسه من العنف الإلكتروني، أو منظومة توفر لهن سبلًا لإثبات الانتهاك الواقع عليهن من أي شخص عبر ساحة الفضاء الإلكتروني، وبالتالي فإن الناشطات على الإنترنت سيكون العبء عليهن مضاعف، فإن كان الكثيرون يرون الهجوم على النساء الناشطات في المجال العام في الواقع الفعلي حق مستحق فما بالك بما يعتقده هؤلاء على الواقع الافتراضي، الذي لا تحكمه أي ضوابط.